كُنت قد شاهدت فيلمًا أمريكياً مُنذ فترة ليست بطويلة البطلة به فاقدة للذاكرة. يأتي النهار عليها وزوجها كل يوم، فتفنجل عينيها غير مدركة من هي ولا أين تكون.
ثم لا يلبث زوجها أنْ يستيقظ، حتىٰ يُهدئها ويُحاول أن يقنعها أن هذه هيٰ حياتها وأنهما زوجان منذ فترة طويلة عارضًا لها ألبوم الصور الخاص بهما. وتتوالي النهارات عليها وزوجها كل يوم بهذه الطريقة، إلىٰ أن يظهر شخصًا ما بحياتها ليثبت لها بوسيلة ما أن تلك الحياة التي تحياها ليست لها، وذلك الشخص الذي يدّعي أنه زوجها هو المسئول عن فقدان ذاكراتها وما وصلت إليه، وأن هناك ابنًا وزوجًا في مكان آخر وحياة أخرىٰ هي حياتها الحقيقية، وعليها أن تبذل الجهد حتىٰ تخرج من الحياة التي وضعها شخصًا غريبًا رغمًا عنها به تحت مُسمىٰ الحب والزواج.
وعلىٰ الرغم من أن الفيلم يحكي قصة عادية لامرأة ما، إلّا أنني وفي إحدى المشاهد أستوقفت أمام الطريقة التي صنع بها المخرج القصة، ولا أدري حقيقةً إن كان هو يقصد ذلك أم لا لكنّ الصورة التي ظهرت بها الأيام تجري بعضها وراء بعضًا الواحدة تلو الأخرىٰ لتكوّن سنينًا مضت، وتوحي بأخرىٰ بإستطاعتها أن تمضي سريعًا. ومن جهة أخرى الشخص الذي احتال عليها وتزوج بها، وطريقتها هي في المقاومة طوال الفيلم حتى تكتشف حقيقتها وتصل لحياتها الحقيقية، الصورة كليتها أوحت لي بأنها أكبر مما هي عليه، أو ربما هي كذلك لكنّها تُوحي بأمرًا آخر.
ووقتها كان رد فعلي أنني لم أتوقف عند هذه الملاحظة طويلًا، فماذا كان سيجدي لو قطعت وقتًا ممتعًا أقضيه لكي أُفكر في مسألة قد يتضح أنها ليست مهمة على الإطلاق.
لكنني بعدما نسيت الفيلم ومضت أيام وأيام مررت بفترة غريبة، توالت علي النهارات بها كما كانت تتوالى تمامًا على تلك المرأة لا يفرق إن استيقظت صبحًا أم عصرًا، وسواء صنعت الشيء الكثير أو الشيء الذي لا يذكر أعود لنفس النقطة التي يندهش إدراكي بها ليجد نهارًا جديدًا قد أتى وأيامًا عديدة قد انقضت، ثم أَنْظُرُ نظرة ضيق لما حولي، فأجد أن الحياة كلها تداهمني بطرقات على بابي معلمةً إيّاي أن الحياة كلها بسهولة أن تفلت وتنقضي. كأن شيئًا ما احتال عليّ وحشرني في هذه الدائرة، وعليَ أن أقاوم بنفسي كتلك المرأة وأتبع سراديب أفكاري حتى أصل لحقيقة ما يحدث لي، وربما حقيقتي.
وفي الحقيقة لم تكن محاولة تفكيري فيما أمر به إلا توقفًا عن السير في دائرة لا تكف عن التحرك، دائرة تمثلت لنا في صورة تقاليد وروتين يومي وغيره؛ لأسأل نفسي متغاضية عن حالتي تلك أمام ما سرته طويلًا من خلفي "هل سأظل أسير هكذا حتى أنتهي؟!"، تمر فترة الجامعة، وما بعد الجامعة، وما بعدها وما بعدها هكذا حتى النهاية بدون التحكم في حقيقتي!
"هل مر الجميع بمثل هذه الحالة كما أمر أنا بها؟!" وبالأخذ في الاعتبار خصوصية الحالة، وبالنظر لما حولي كانت الإجابة "نعم"، الجميع عليه أن يمر بهذه الحالة في فترة ما، البعض مر بها، والبعض مازال يعايشها، والبعض لم يحن وقته بعد، ونحن جميعًا في عبورنا إياها ننقسم لصنفان، صنف يعايشها وكأنها لم تكن، وصنف يعايشها وينتقل بين سراديبها آملًا أن يعرف ماهيتها في حياته، ولماذا وجدت بها، ويتعرقل في سوداويتها إلىٰ أن يصل لنور من أجله وُجدت هي.. وهو "نور الحقيقة".
ولا أريد مِنك أن تراني مبالغة هنا بقولي "نور الحقيقة"، لكن الإنسان خلالها ينظر إلىٰ حياته من أعلىٰ، لما مضىٰ وما يمكن أن يأتي، حتى تنكشف الرؤية أمامه ويرى بوضوح، وإما أن يكون راضيًا عنه وعن حياته وإما أن يقلب الدنيا رأسًا على عقب مختارًا دراسة أخرىٰ أو عملًا آخر أو مكان آخر للعيش أو حتى يبدل أماكن الأوراق في صدره، ثم يسير بعدها نحو نهاية مطافه بملئ إدراكه وإرادته.
أقول لنفسي لم يكن الأمر صُدفة، فكان وقتي قد حان أن أكتشف حقيقتي وأتحرر من القضبان التي حجبتها عني، وليس عليّ أن آسَفَ علىٰ نفسي وما يمر من أيام وما يمكن أن يمر الآن، لكن من آسف عليهم حقًا هم هؤلاء الذين يخافون التنقل في سراديب حالتهم، ماضيين نحو النهاية بقضبان أحكمتها الحياة عليهم، وعندما يكادون أن يصلوا لخط نهايتهم يلتفتون خلفهم ويسألون "كيف ذلك؟!" لكن حتى في ذاك الوقت سيكون يومًا واحدًا في "نور الحقيقة" نصرًا لحياة بأكملها مضت.
Comments
Post a Comment