منذ فترة طويلة تتجاوز سنوات ونحن نعاني
من التحريف، الاقتباس المشوه، والانتقاء في كل الجوانب العلمية. نعم هي تحديدًا
كلمة الانتقاء، من منا لم يسمعها سابقًا؟ عليك أن تنتقي مصادرك المعرفية، العلمية،
الثقافية...... إلخ. أعتقد أنه مع الاختلاف الشديد بين المراحل العمرية إلا أنه
على الأقل جيل الثلاثينات والأجيال التالية له جميعهم يسمعون هذه الترهات.
بالرغم من كوننا في عام 2019 إلا أننا
نجد من يملي علينا هذه الترهات الآن. فها هو إياد قنيبي يخرج علينا عبر صفحاته على
شبكات التواصل الاجتماعي ليقول لنا لا تشاهدوا الدحيح – وهذا الاسم شهره لأحمد الغندور
الذي يقدم محتوى علمي ترفيهي – هذا الملحد المروج للإلحاد. عليكم أن تسمعوا صوت
الحق، وهو صوتي أنا، صوت الدين، وهو صوتي أنا. في بداية الأمر لم أكن أود أن أشاهد
هذه الفيديوهات – والتي بالمناسبة ليست المرة الأولى التي نجد فيها أحد ما يبحث
وراء خلفية الدحيح الدينية سواء كان متدين أم لا ديني – ولكني لم أهتم بهذه
الفيديوهات إلا حينما وجدت عدد كبير من أصدقائي يتشاركونه على شبكات التواصل.
حسنًا بدأت المشاهدة، يظهر أمامي رجل
يعتلي وجهه ابتسامه غريبة، فيها انتقام – وكأنه يقول " مرحبًا، لقد حصلت على جائزة
نوبل في انتقاد الدحيح". يبدأ هذا الرجل في انتقاد الإلحاد وكيف أنه وصل إلى
مرحلة تخبط شديدة بعدما أحل المادية مكان الغيب والفطرة ووجود الخالق، ومن ثم يعرض
وجهة نظره "الميتافيزيقية" عن خلق الكون والحياة والنفس البشرية – والتي
يمليها عليك دون أن يعرضها كوجهة نظر ممكن الاختلاف معها. وبعد ذلك يبدأ في انتقاد
الدحيح وفي استعراض مشاهد من حلقاته ويستعرض عضلاته في تكذيب المصادر أو التقليل
منها قائلًا " ليه الدحيح مبيجبش مصادر محترمة، ليه بيتعمد يجيب مصادر تخدم
وجهة نظره".
وبغض النظر عن كون هذا الرجل هو الآخر
ينتقي المصادر التي تخدم وجهة نظره التي يجعلها هي وجهة النظر الأوحد والتي لا
يجوز لك أن تقتنع بغيرها – فهو يستغل الدين خير استغلال هنا – إلا أنه استدل
بالمصادر التي تتناول مادية الحياة، بمعنى أنه يهاجم مادية الدحيح
"الملحدة" بمصادر أخرى تهتم بالعلم المادي ولا تتناول الأمور الغيبية أو
فطرة الحياة كما أشار. إذن لماذا تهاجم مصادر الدحيح، وأنت تستخدمها لتنتقد
الدحيح؟ من أبرز مواقف الاختلاف بين ذلك الرجل والدحيح هو التطور، الدحيح مؤمن
بالتطور، إياد قنيبي لا يؤمن بالتطور، بالرغم من أنه استخدم بعض المصادر التي توضح
أخطاء الدحيح، ولكنها توضح أن التطور حقيقة. فلا تدري من أين يتحدث، أو ما مدى
فهمه لما يقوله؟ من هذا الرجل؟
قال لي أحد أصدقائي أثناء انتقادي لهذا
الرجل " أنت عارف مين دا؟ دا دكتور صيدلي و....." كان ردي عليه أنني لا
أحتاج أن أعرف من هذا لكي أغير مسار فهمي لما قاله، لقد شاهدت وجهة نظره كاملة إلا
أن انتهى من كلامه، وهذا يكفي بالنسبة لي لكي أحدد ما الانطباع الذي آخذه عن هذا
الرجل. ولكن إن كنا نود أن نبحث في خلفية هذا الرجل، لنبحث إذًا. إياد قنيبي هو
أحد الدعاة الجهاديين، والمعروف بلين انتقاده لداعش – والذي بالمناسبة رفض قتالهم
بأي شكل من الأشكال معتبرًا ذلك حربًا على الإسلام، وبالتالي فهو يمقت
الديموقراطية بطبيعة الحال، فهو رجل سلفي جهادي.
يقول الدكتور محمد أبو الغيط في مقال
نشره أن القنيبي يأتي من عالم الجهاد والأصولية السنية ليدعي البراءة والحياد في
انتقاد الدحيح الذي يراه مروج للإلحاد أكثر خطورة من هؤلاء الذين يدعون للإلحاد
بشكل مباشر مثل شريف جابر. بالرغم من أن المقال تناول الموضوع من هذه النقطة
تحديدًا، إلا أنه يوجد ما يمكننا أن نتحدث عنه غير ذلك.
الدحيح يتبنى وجهة نظر، ومن الطبيعي أن
يكون هناك أخطاء سواء كان متعمدًا ذلك لإثارة التفاعل أو الجدال، أو غير متعمد،
سواء كان مؤمنًا، سواء كان شريف جابر جديد، فهذا ليس مبرر أن نمارس هوايتنا الإقصائية
عليه. ماذا نريد من مجتمع أصابته كل الأمراض، يقصي كل ما يخالف الرأي السائد، كل
معتقد راسخ. حتى أننا نحاول أن نفعل ذلك مع العلم؟ نرى هذا الرجل يحاول أن يفرض
علينا وجهة نظره "العلمية" والتي هي تعترف بالغيبيات والفطرة الإسلامية،
ولا تعترف بالتطور أو المادية، دون حتى أن يسمح بالنقاش حول ذلك.
هذا ما يخيف، لا يهم انتقاده للدحيح
بقدر ما يهم ما ينشره من فكر، والذي ينتشر بين قطاع كبير من الإسلاميين كبارهم
وصغارهم، متذرعًا بالدين، وأن الله يقول. يرفض التطور، لأن الله خلق كل شيء في
أحسن صورة، يرفض المادية، لأن الله أوجد فينا روحًا ونفسًا. إن هذا ما يمكننا
تسميته العلم السلفي. ربما مسألة التطور هي ما يمكنها أن تقرب لنا ذلك المفهوم،
ويشترك فيه هذا الرجل مع رجال الدين في أوروبا وغيرهم. العلم الذي يفسر القرآن أو
الكتب السماوية بطريقة معينة ومن ثم يفترض أن الكون كله يسير وفق هذا التفسير
فرضًا ووجوبًا. ولا يفترض أبدًا أن تفسيره خطأ أو به عيب، فنجدهم يقدسون التفسير
أكثر من القرآن أو الكتاب السماوي نفسه.
بالرغم من بعض المشاكل التي أجدها في
طريقة تفكير د. مصطفى محمود، إلا أنه تحدث عن هذا الأمر في لقاء له بأسلوب يرضي
المتدينين بطبيعة الحال، ولكن على الأقل يساعدهم على تقبل التطور. يقول أنه لا
يجوز وضع القرآن طرف في نقاش، لا يجوز أن يستحوذ أحدهم على القرآن ليجعله في صفه،
فالقرآن لا يأخذ جانب أو صف ضد أحد. فبالنسبة لموضوع التطور والآية التي يستدل بها
بعض الناس لكونها تنفي التطور وهي "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين" يقول د. مصطفى أن الأمر في التسوية، فلا يمكن لأحد أن يجزم طريقة
التسوية التي اختارها الله ويقول الخلق هكذا تم. غير أن الله أمرنا بأن نسير في
الأرض لنرى كيف بدأ الخلق، فإذا كانت مسألة الخلق محسومة، لماذا يأمرنا الله
بالبحث، إلا إذا كان ذلك عبثية منه.
العلم السلفي يأمرنا أن نعتبر الله
سطحي، بنفس الطريقة السطحية التي يتعاملون فيها مع الدين، وأسلوب النصوص والابتعاد
عن الجوهر أو الفلسفة. العلم السلفي يأمرنا أن نظل محبوسين في الحياة قبل 1400
عام، أن نعطي الفلسفة ظهورنا وأن نقدس الصحابة أو القديسين. العلم السلفي هو وجه
آخر يود أن يسطر علينا من خلاله رجال الدين، أن يواكبوا التيارات الجديدة ليحكموا
قبضتهم علينا كالمعتاد. وعلينا أن نتذكر دائمًا ألا شيء يسمى انتقاء المصادر.
Comments
Post a Comment