Skip to main content

"القصة"





خلا المنزل من الضوضاء تماماً.. مسحت "صوفيا" الطاولة وقامت بترتيب الفوضىٰ التي أحدثها إفطار الصباح،  ثُم وهي تتمدد علىٰ مِقعد خشبي موازٍ لشرفة الصالون قامت بوضع إسطوانة في الكاسيت بجانبها ليعلو صوت الشيخ إمام "وهبت عُمري للأمل ولا جاشي.." إبتسمت، وأغمضت عينيها لتشعر بنفسها وقد إنسحبت من واقعها، وروحها تتطاير مع صوت "الشيخ إمام".
عمت السكينة المكان حولها وبدأت تشعر أنها تغوص في نوم عميق، عندما قطع هدوء المكان فجأة صراخ يأتي من الشرفة "ياأم حسن إقفلي الحنفية الجنينة هتغرق .. إقفليها بسرعة"
في هذه الأثناء فتحت صوفيا عينيها ليعيدها صراخ أبو حسن إلىٰ الواقع مرةً أخرىٰ، ثم وهي تنتفض من علىٰ مقعدها وتتجه نحو البلكونة أخذت تسب الحظ الذي جعلها تأخذ الدور الأول من عمارة تشتمل على 12 دور لتسمع صراخ أبو حسن مع أم حسن كل يوم ونمهما الذي لا ينقطع عن سكان هذه العمارة.
ألقت نظرة علىٰ ما يحدث في الخارج، ففوجئت بأبو حسن البواب حاملاً خرطوم المياه ويرش حديقة العمارة الأمامية وأم حسن تأتي جرياً من الداخل ممسكة بابنها بكامل مِعصمها لترد له الصراخ:
"إنت متعرفش تعمل حاجة لوحدك أبداً ، الدقيقتين اللي دخلت فيهم أشوف الواد بيعيط ليه ألاقيك عمال تُصرخ هنا!.."
-"إقفلي الحنفية.."
-"إتقفلت ، تعال يالا عشان تشرب الشاي.."
إبتسمت صوفيا إبتسامة ساخرة ، فمعنىٰ أن يجلس أبو حسن ليشرب الشاي أن تبدأ نشرة الأخبار الصباحية عن كل سكان العمارة ، ترىٰ من سيكون مادة الحديث اليوم؟.
 •••

أخذت تراقب أبو حسن بجلبابهِ الأخضر القاتم الذي عفا عليه الزمن، ومشيته السريعة التي تكشف عن قوامه النحيف وهو يلف الخرطوم ويضعه بداخل غرفته التي تقع بالدور الأرضي ثُم يجلس بجانب زوجته. إضطجع علىٰ راحتيه وقام بمد ساقيه فوق المقعد، ليسألها:-
"وديتي العيش لأستاذة أنهار في الدور السادس؟..."
-" وديته ..." ، ثم أكملت قائلة :-"وباركتلها كمان بنتها تالية نجحت في الثانوية وجابت 80•/•"
-فتحدث أبو حسن بنبرة لا تخلو من الرثاء والتأثر:-  "80•/• لاإله إلا الله ، ماطلعتش ناصحة زي هبة بنت أستاذ عمرو اللي في الدور التاسع وجابت96•/•.."
- أهو نصيب.. بس أنا سمعت هبة بنت أستاذ عمرو بتقول لأمها امبارح وأنا بكنس لهم الشقة أنا عايزة أدخل حقوق ، بس الست صفاء أمها قالتلها أبداً قفلي عالموضوع ده مش هتدخلي غير هندسة .."
•••

ذكّر كلام الست فتحية "صوفيا" بأيامٍ ليست ببعيدة عندما كانت في الثانوية ذات الشُعبة العلمية وظهرت نتيجتها بمجموع حطم آمال أبويها اللذان أرادا أن يُدخلاها كلية الطب ، علي الرغم من أنها شرحت لهم مراراً ومراراً أنها تكره هذا التوجة وتشعر بالتكبل عندما تجلس لحل مسألة فيزياء أو كيمياء ولكن كانت هي رغبتهما ولم يشأ الله ذلك.
فقالت لأبيها أنه طالما الله لم يشأ أن يحقق رغبتكما سأحقق أنا رغبتي والتحق بكلية الآداب.
ولكنها لا تُخفي أن الأسئلة كانت تتوافد علىٰ ذهنها بين الحين والآخر.
فكانت تتساءل ماذا لو أن التجارة والآداب هُما القمة؟! ، ماذا لو أن حال الدولة سيعتدل عند الإهتمام بما تُمثله التجارة أو إصلاح حال التعليم؟! ، ماذا لو كانت الوظائف ستوفر علىٰ الفور لخريجي هذه المجالات؟.. بالتأكيد الآباء والأمهات كانوا سيوجهون أولادهم نحو هذه الكليات تحت غشوة الراتب، الإهتمام الحكومي، الوظيفة السريعة. وكان سيبقي في كليات الطب والهندسة الأقلاء ممن يهتمون حقاً بما تمثله هذه المهن.

وبينما هي منشغلة بتيار الأفكار الذي ينهمر علىٰ رأسها وقع نظرها علىٰ قطة تحاول أن تسرق رغيف خبز نسيه "أبو حسن" بنافذته لتهرب منتصرة بعد أن تأخذ الخبز وتحقق مرادها.
شعرت "صوفيا" بالعرفان في النهاية لأنه بالرغم من كل ما حدث بات تخصصها أن يكون كما أرادت دوماً، حتىٰ أنها إستطاعت أن تحصل علىٰ وظيفة أحلامها. وتذكرت كلمات أحد أساتذتها الذي درس لها بعامها الأول عندما قال:
"علي الرغم من نجاح الحكومات بالخارج إلا إنهم لايسمحون لأنفسهم أن يضعوا معاييراً لمواطنيهم كالتي نضعها تحت مُسمى القمة والقاع، أما نحن بالرغم من فشية منظوماتنا إلا إنهم مازالوا يضعوا لنا المعايير حتىٰ الآن، بل وصلت بهم الحال إلىٰ أنهم لا يسمحون لأحد بأن يخترق معاييرهم."
عادت من شرودها لترىٰ أبا حسن يترجل من علىٰ مقعده ليخرج السيارة للدكتور عمر.
فتركت "صوفيا" البلكونة وهي تُحدث نفسها بصوتٍ يكاد يملأ الغرفة...
 " عندما أخرج هذا المساء سأخبر "تالية" و"هبة" أن يترفعوا عن معاييرهم الفاشلة، لتضع كل منهما معيارها الخاص لتختر مستقبلها الذي تشاء"
إستلقت علىٰ مِقعدها، وخضرة الجنينة بأشجارها العالية تبعث بنسمات الربيع أمامها ، ليقطع فكرها شجن فيروز يقول :-"زوروني كل سنة مرة"، فتريح رأسها مبتسمة و تسبح في سكينة المكان مرة أخري وتغط في النوم.

Comments

Popular posts from this blog

كف الحياة المقامر

  ديمًا كنت بعتبر الحياة عبثية لا يكمل منطقها إلا الموت أو سوناتا ضوء القمر حق بتهوفن. ولكن كما يوحي عنوان المقال فأنا بقيت مقتنع تمامًا إن أفضل حل لمواجهة عبثية الحياة وفقدان الشغف اللاحق لكل أنواع الخذلان المتعاقب علينا واللي بيبقى أوقات كتيرة يصعب التعافي منه، هي المقامرة. ولكن المقامرة مع الحياة. صمت الوحدة العنيد في هدوء الليل (لا مش هو الصامد المغامر ولا حاجة) بتلاقي نفسك بتشرب أي حاجة ليها تأثير على عقلك، في أحسن الحالات، زي القهوة. وبتبص للسما اللي لو حظك حلو تكون صافية وتلقي نظرة متفحصة على النجوم متنهدًا في ليلك وحيدًا مش لاحق حتى إنك تسأل النجوم، ليه الأمور وصلت للمرحلة دي؟ مش لأنك عارف ولكن لأن دموعك بتلحق كلامك وتبادر في النزول. الدموع دي من فرط التفكير اللي بيصاحبه عجز عن العثور على حل أو على الأقل مغزى من اللي بيحصل.    هنا بتبدأ رحلة الاقتناع، بما أدركناه مسبقًا سواء بالذهن أو بالحواس، إنه بالفعل لا يوجد أي منطق أو مغزى ممكن نصبّر نفسنا بيه. مهما كان في البداية يبدو أن الحياة منطقية ولكن منطقها يتناسب عكسيًا مع مدى إدراكك لجوانب حياتك. بعضنا بيجد...

لن أعيش في جلباب أبي -- الرواية و الدراما

أول ما تسمع جملة " لن أعيش في جلباب أبي" هييجي تلقائيا في دماغك " عبغفور و فاطنة" 😂 .. ومع حبي الشديد للمسلسل اللي    من وجهة نظري ميتزهقش منه قولت أقرا الرواية واشوف هي هتبقي زي المسلسل ولا لا لن أعيش في جلباب أبي - الرواية الرواية تأليف كاتب الحب والحرية " احسان عبد القدوس" اتكتبت سنة 1982 صدرت عن مكتبة غريب .. تناولت بشكل سطحي جدا حياة المليونير العصامي البخيل " عبد الغفور البرعي" . أولا: الرواية فيها كم غلطات رهيبة في الاسماء مره تلاقي ابن عبد الغفور الكبير اسمه عبد الستار والمرة التانية تلاقيه عبد السلام (وهو اساسا شخصية لا وجود لها ولا تأثير في الرواية ).. (أمينة) البنت الامريكية اللي اسلمت مرة تلاقيها اسمها روزماري ومرة روزالين ..  ثانياً: حياة عبد الوهاب البرعي واللي كان طول الوقت الكاتب بيحاول يوصل للقارئ اد ايه انه غريب شاب يكون في سنه وملهوش اي علاقات نسائية وكأن الطبيعي في مصر العلاقات الكتير قبل الجواز.. ثالثاً: حياة نظيرة البرعي واللي المفروض كل يوم بتروح تقعد مع حسين في بيته وتروح من عنده متأخر ...

عن العلم السلفي ونقد الدحيح

منذ فترة طويلة تتجاوز سنوات ونحن نعاني من التحريف، الاقتباس المشوه، والانتقاء في كل الجوانب العلمية. نعم هي تحديدًا كلمة الانتقاء، من منا لم يسمعها سابقًا؟ عليك أن تنتقي مصادرك المعرفية، العلمية، الثقافية...... إلخ. أعتقد أنه مع الاختلاف الشديد بين المراحل العمرية إلا أنه على الأقل جيل الثلاثينات والأجيال التالية له جميعهم يسمعون هذه الترهات. بالرغم من كوننا في عام 2019 إلا أننا نجد من يملي علينا هذه الترهات الآن. فها هو إياد قنيبي يخرج علينا عبر صفحاته على شبكات التواصل الاجتماعي ليقول لنا لا تشاهدوا الدحيح – وهذا الاسم شهره لأحمد الغندور الذي يقدم محتوى علمي ترفيهي – هذا الملحد المروج للإلحاد. عليكم أن تسمعوا صوت الحق، وهو صوتي أنا، صوت الدين، وهو صوتي أنا. في بداية الأمر لم أكن أود أن أشاهد هذه الفيديوهات – والتي بالمناسبة ليست المرة الأولى التي نجد فيها أحد ما يبحث وراء خلفية الدحيح الدينية سواء كان متدين أم لا ديني – ولكني لم أهتم بهذه الفيديوهات إلا حينما وجدت عدد كبير من أصدقائي يتشاركونه على شبكات التواصل. حسنًا بدأت المشاهدة، يظهر أمامي رجل يعتلي وجهه ابتسامه غر...