الشيخ مصطفى إسماعيل |
في ختام صيام يوم رمضاني، واقفًا أمام الراديو في وسط غرفة المعيشة بينما يستعد جميع أفراد الأسرة للإفطار، مستمعًا "لقرآن المغرب" تحديدًا حينما بدأ القارئ في تلاوة أجزاء من سورة آل عمران "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ". حينها وجدت لحظة صمت تلاها انفجار من الإعجاب. في الواقع كانت لحظة تمتلئ بمشاعر عدة، فقد امتلأت عيني أمي بالدموع، وانضم جدي للمستمعين والحاضرين لتلاوة القارئ قائلًا "الله" بفرط من النشوة والإجلال في ذات الوقت. بينما لم يبهرني وقتها سوى ردات الفعل تلك، وكذلك الحاضرين أمام القارئ وهم ينفعلون في ختام كل آية. غير مدرك سبب ذلك الانفعال، وكذلك انفعال جدي وخشوع أمي. أوليس هذان ضدين؟ فبادرت بسؤال جدي عن اسم القارئ وقد كان الشيخ أبو العنين شعيشع، وفي الفترة الضيقة قبل الإفطار عرفت منه أن هناك نوعين من تلاوة القرآن، الترتيل والتجويد. وما كان يقرأه الشيخ شعيشع إنما هو تجويد لآيات آل عمران.
نظرة سريعة على تاريخ التلاوة
كان الحديث السابق لوقت الإفطار مثمرًا بشكل
كبير، فقد كان مدخلي لعالم التلاوات القرآنية. ربما وقتها مع صغر سني لم أجد سوى
جدي لينير هذا الطريق أمامي، ولكن مع مرور الوقت كونت مكتبتي الخاصة من قارئي
القرآن، على الأقل المشهورين، إلا أنني لازلت في رحلتي لضم المزيد لهذه المكتبة.
ولذلك لست أكتب هذا المقال بالتأكيد ليكون كأرشيف يجمع ما استمعت إليه من تلاوات
مذهلة، وإنما لنناقش أمرًا آخرًا وهو استخدام المقامات الموسيقية في تلاوة القرآن
وهل يمكن ذلك؟ وما أثره؟ وما سبب النشوة والإجلال الذي يرافق هذا النوع من
التلاوات؟
لا يمكننا أن نحصي تاريخ التلاوة المصرية
بالكامل بلا أدنى شك. ولكننا بنظرة سطحية إلى حد متوسط يمكننا أن نعرف المسارات
الفارقة في تاريخ التلاوة المصرية. بداية بالشيخ علي محمود. في الواقع يمكننا
اعتباره جوهر مدرسة التلاوة المصرية. فهو من أوائل من قرأ بمقام الكرد حتى قبل
اعتماده كمقام أساسي، وتتلمذ على يده الكثير من القراء والمنشدين – فلا ننسى أن
الشيخ على محمود أنشد الكثير من الابتهالات والموشحات، كما غنى بالكثير من الجلسات
الطربية برفقة عبد الوهاب وغيره. ومن أهم تلاميذه كان طه الفشني، محمد رفعت، كامل
يوسف البهتيمي، الشيخ زكريا أحمد، أم كلثوم وأسمهان. ولذلك يعتبر الشيخ علي محمود
جوهر وجوهرة مدرسة التلاوة المصرية بما قدمه، وبما انتهجه تلاميذه من بعده.
وبالرغم من أن الشيخ محمد رفعت على مدرسة – أي
طريقة وأسلوب تلاوة – الشيخ علي محمود، فإن الشيخ رفعت تميز بشكل كبير. فكما لو
كان ان قائمًا بمدرسة خاصة به، تأثر بها كثيرًا ممن جاءوا من بعده، يكاد يكون
أهمهم الشيخ أبو العنين شعيشع. إلا أنه وفي نفس الفترة – فترة الشيخ علي محمود
ورفعت – كانت توجد مدرسة أخرى برع فيها الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي. ومن الواضح أن
تلك الفترة ازدهرت فيها التلاوة – الراقية بلا أدنى شك – مما فتح الباب أمام
المزيد من القرّاء لشرب واستخلاص عصارة مدارس عريقة في هذا المجال. وحديثنا الآن
عن أحد عملاقة التلاوة بدون مبالغة – ومن المفضلين لي شخصيًا – وهو الشيخ مصطفى
إسماعيل.
مصطفى إسماعيل والتطور الملحوظ
ربما من أبلغ العناوين التي يمكن أن تقرأها عن
الشيخ مصطفى إسماعيل هو الذي عنونت به مجلة ميم "مطرب عبقري في جبة
قارئ". وهذا العنوان تحديدًا هو ما يجعل الشيخ مصطفى إسماعيل علامة فارقة في
تاريخ التلاوة المصرية. فهو الذي تشرب أصول التلاوة من كثرة الاستماع للشيخ محمد
رفعت والشيخ عبد الفتاح الشعشاعي؛ دامجًا مدرستين مختلفتين ليخرج لنا بمدرسة دامت
لفترة طويلة يقرأ بها الكثيرين من أهمهم الشيخ أحمد نعينع والشحات أنور - إلا أنه
استخدم مقام الجهاركا أكثر - والكثيرين من أبناء جيلهما مثل الشيخ
محمد أحمد شبيب، والشيخ سيد متولي وغيرهم، وذلك حتى طغت الشعبية على التلاوة
المصرية.
عرضنا الشيخ مصطفى إسماعيل لسؤال هام وهو هل
يمكنك أن تستمع إلى القرآن وتسمح للقارئ بأن يطربك؟ ربما نجد أن كل قراءات التجويد
تعتمد على النغم، إلا أنها تتفاوت من قارئ لقارئ. فعندنا الشيخ حصان أسطورة النغم
وعندنا الشيخ الحصري المتحفظ على كثرة النغم في التلاوة، فنجده يتلو أقرب إلى
الترتيل منه إلى التجويد – وفي هذه النقطة دارت مشاحنة بين الحصري وحصان في حفلة
ما بسبب رغبة الناس في الاستماع لحصان، وهو ما عاقبه عليه الحصري بمنعه من الالتحاق
للإذاعة لفترة. لنؤجل الإجابة عن السؤال الذي فرضه علينا الشيخ مصطفى حتى نسمع
الشيخ محمد عمران.
محمد عمران: ذروة سنام التلاوة المصرية
"دا باينه هيهز معانا المشاعر الليلة
دي" هكذا عبر أحد الحاضرين على أداء عمران لسورة يوسف. عمران من وجهة نظري –
والتي يمكن أن يخالفها الكثيرين نظرًا لأن عمران اشتهر بالابتهالات والأناشيد –
فإنه من أفضل من قرأوا القرآن على الإطلاق. مدرسة الشيخ محمد عمران هي مدرسة نغمية
إلى حد كبير ولكن موزونة كذلك، كما أنه من خير من سار على نهج الشيخ على محمود في
مقام الكرد. ولكن كانت مشكلة عمران الكبرى حسه الموسيقي العالي. أجل هذه مشكلة،
فكان لا يستمتع بعمران سوى من يهوى الموسيقى فعلًا، فكان عبد الوهاب من أشد
المعجبين به. فعمران كان عادة ما يدمج أكثر من مقام في تلاوة واحدة، بل يمكن في
آية واحدة. فها هو يصدح بخمس مقامات في جواب واحد: يبدأ بالجهاركا، ثم للكرد حتى
يصل للنهاوند، وينزل على الحجاز متخذًا الرست وسيطًا له.
ما بين روحية الكلمات ونغم المقامات
أعتقد أننا قد وصلنا إلى مرحلة جيدة نستطيع من
خلالها الإجابة عن السؤال الذي فرضه علينا الشيخ مصطفى إسماعيل: هل تسمح لقارئ
القرآن بأن يطربك؟ لقد أجريت تصويت على حسابي الخاص على تويتر وكانت نتيجة العينة
العشوائية – الضئيلة بالطبع – هي نعم.
ولكن لماذا؟! ما السر؟
"سايقك عليك النبي تاني وتاني وتاني"،
"والله العظيم عَمران يا عُمران" هكذا يتفاعل سميعة عمران معه، وهذا وإن
دل فإنما يدل على حالة كبيرة من النشوة التي يصل إليها مستمعيه. لا نستغرب ذلك على
الموسيقى، ولكن بالرغم من أن العلم قد أثبت أهمية الموسيقى وتأثيرها الإيجابي على
الدماغ، إلا أن الانفعال يبدو أكثر توهجًا، والتأثر يبدو أشد وأقوى في حالة
التلاوات القرآنية. والسر في روحية الكلمات ونغم المقامات.
لقد قلنا أن الطرب والموسيقى بشكل عام تحفز المخ
وتساعده على الوصول لحالة أكثر سعادة، فمن هنا يفهم الشعور باللذة والنشوة حينما
يستخدم أحد المقرئين المقامات الموسيقية في تلاوته. ولكن حالة الإجلال تلك
المصاحبة للشعور بالنشوة الطربية تنبع من عمق وروحانية الكلمات القرآنية. واستخدام
النغم ما هو إلا وسيلة لشق الطريق أمام كلمات القرآن الروحانية بل وتهيئة الجو
للشعور بها واستيعابها بشكل جيد. وهنا يأتي دور القارئ.
ذكاء وحرص على الإمتاع
إذا ما تصفحنا المقاطع التي أضفتها إلى هذا
المقال والتي معظمها تم تسجيلها في حفلات. فإننا نجد أن جميعها يتلو فيها القراء
آيات تتركز فيها الجانب الروحي من القرآن، وإن شئت فاربطها بالصوفية، إلا أن ذلك عليه
تحفظ. ولكن نرى معظم التلاوات التي يجتمع فيها الطرب مع القرآن فإنها تكون تلاوات
تتحدث في الغالب عن العلاقة بالله، يكثر فيها التضرع، الحب الصوفي، الامتنان،
الخوف، طلب الغفران والدعاء. أو يمكن أن تكون قصة، وهنا الوضع يصبح أفضل بكثير،
مثل سورة يوسف.
باختصار يمكننا القول بأن الطرب والموسيقى إذا
كان دورهم مساعدة العقل للوصول للنشوة، فإن الآيات هنا دورها مساعدة القلب للوصول
للراحة، الطمأنينة، الارتقاء الروحاني، وبالتأكيد الخشوع. ولذلك فإن نتيجة الآيات
الروحانية مع الطرب يخرج لنا الانفعال الذي نراه من الكثيرين. فأنا الذي كنت أتهكم
قليلًا على المبالغة في ذلك الانفعال، إذ بي أفقد عقلي مع ساعة كاملة مع الشيخ
مصطفى إسماعيل أو محمد عمران.
السلفية ومعاركها
لم يسلم هذا القطاع من الأنشطة المصرية من
الهجوم السلفي، فعادة ما تتم شيطنته واحتقاره. فالطائفة السلفية ترى بداية بتحريم
الموسيقى دون أن يعلموا أن القرآن أضاف الكثير للموسيقى بحد ذاتها؛ حيث يفرض
القرآن قواعده، فلا يصلح أي مقام لأي آية، ولا يصلح القرار والجواب على حد سواء.
فهنا يكمن الحس الانتقائي للقارئ وفق قواعد التجويد التي فرضها لقرآن ذاته وربما
هذا الفيديو خارج سياقنا إلا أنه ذا أهمية لمن أراد أن يستوضح هذه النقطة.
ولكن لنعذر الطائفة السلفية لما توصلوا له من
رأي، وذلك لأن العديد من القراء الحاليين يبتعدون عن تلك القواعد بشكل كبير. وليس
فقط قراء التجويد مثل محمود الشحات أنور ومحمود عامر وغيرهم. ولكن ذلك لا يرجع إلى
أصول التلاوة وإنما إلى أخطاء فردية.
النقطة الأخرى هي ربط هذا النوع من التلاوات –
التجويد – بالصوفية. وبالرغم من خلط المعاني الصوفية تحديد من الجانب السلفي، إلا
أن هذه المشكلة ترجع بالأساس للعقيدة السلفية. فالسلفية والأصولية الإسلامية تكره
التصوف لأنه يهدم عقيدتها الفاشية، وكذلك هذا تلاوات التجويد يمكن اعتبارها وسيلة –
أو على الأقل يرونها كذلك – تدمر عقيدتهم الفاشية.
في الأخير لا يمكننا سوى الاستمتاع، لنترك قارئ
القرآن يطربنا، لنتركه يبسط قلوبنا لنتلقى الروحانيات، يمهد لها الطريق للاستقرار
بداخلنا، لنظل في حالة من الهيام أطول فترة ممكنة. وتذكر كلما احتجت للنشوة يمكنك
الاستماع أفضل.
Comments
Post a Comment